العقيدة أقوى من الأفراد. الـحرب الداخلية. مؤتـمر موسكو. إستقلال لبنان. إنتصار مبادىء الـحزب السوري القومي ونظرياته في العالم العربي. الثقة بالنصر الأخير.
(توكومان في 4 ديسمبر/كانون الأول 1943
كان الاحتفال بـمرور أحد عشر عاماً على نشوء النهضة السورية القومية الاجتماعية، في توكومان، إحتفالاً عظيماً شائقاً. وقد أُخّر عن موعده بانتظار قدوم معـالي الـزعيم فتـقرر أن يكون يوم الأحد في الثامن والعشرين من نوفمبر/تشرين الثاني. وقسم الاحتفال إلى قسمين: القسم الأول خطابي بين الساعة الثامنة عشرة والـحادية والعشرين، والقسم الثاني اجتماعي قُدّم فيه عشاء للزعيم والرفقاء من الساعة الثانية والعشرين.
أما الاحتفال الـخطابي فكان رائعاً. وقد أقيم في الفناء الفسيح من دار الرفيقين إلياس أنطكلي ونبيهة الشيخ أنطكلي، وبعد أن امتلأ الـمكان بالقادمين أطل الزعيم نحو الساعـة 18 والدقيقة 45 فتعالى هتاف القوميين الاجتماعيين بحياته وتصفيقهم لـحضوره. فتقدم إلى كرسيه على الـمنصة الـمعدّة خصيصاً لهذا الاحتفال وحيّا الرفقاء الذين كانوا نهضوا عن كراسيهم. ثم جلس معاليه وجلس إلى جانبي الـمنصة الـمشارف الرفيق جبران مسوح ورئيس فرع الـجمعية السورية الثقافية موقتاً الرفيق مرشد دلول، وأخذ رفيقان موقفاً وراء الـمنصة.
إفتتح الاحتفال الـمجاهد جبران مسوح، فأخبر عن تاريخ ابتداء الـحركة السورية القومية الاجتماعية وأهميته وعن هذا الاحتفال ومغزاه. ثم انتقل إلى تقديـم الـخطباء فقدّم الرفيق دلول الذي ألقى خطاباً متقداً بالغيرة متدفقاً بالإخلاص للعقيدة القومية الاجتماعية وللزعيم. وتلاه الرفيق جورج باظا بخطاب أظهر فيه مـميزات القوميين الاجتماعيين وتبعه الرفيق إدوار نـمر بكلمة حماس. ثم ألقى الرفيق أنطكلي قصيدة الرفيق يعقوب ناصيف التي لم يـمكن إلقاؤها في احتفال بوينُس آيرس.
عند الساعـة التاسعـة عشـرة والربـع تقـريباً نهض الزعيم ليخاطب القوميين الاجتماعيين فشخصت إليه الأبصار وتطاولت الأعناق وأرهفت الـمسامع. وكان معاليه هادئاً، منبسط الوجه فابتدأ خطابه قائلاً):
«أيها الرفقاء القوميون الاجتماعيون،
«يا رفقاء توكومان،
«إنّ سروري لعظيم بوجودي بينكم واشتراكي معكم في إجراء هذا الاحتفال الكبير تذكاراً لنشوء نهضتنا القومية الاجتماعية العظيمة منذ أحد عشر عاماً. إني مسرور جداً، لأن هذا الاحتفال والـمجموع القومي الاجتماعي الذي يقوم به يقيمان دليلاً قاطعاً على نـمو حركتنا بين مواطنينا. وإنّ في هذا الـمظهر من مظاهر حياتنا القومية الاجتماعية لبرهاناً ساطعاً على أنّ العقيدة أقوى من الأفراد والـحالات العارضة.
«ليس ما حدث في توكومان سوى حلقة من سلسلة طويلة من تاريخ حركتنا، أقامت البرهان بعد البرهان على صحة هذه النظرية، فقوة إيـماننا وأساس قوتنا الـمعنوية هما في عقيدتنا القومية الاجتماعية الصحيحة. فالأفراد يذهبون ويجيئون ويتبدلون ويتغيرون، أما العقيدة فتبقى راسخة لا تتبدل ولا تتغير ولا تتزعزع مع النفوس الـمتزعزعة، وإذا سقط أفراد ضعفاء في عزائمهم وإيـمانهم فالعقيدة لا تسقط بسقوطهم والقضية تبقى قائمة بقيام العقيدة.
«إنّ أساس قضيتنا هو في عقيدتنا الـمقدسة - في مبادئنا، التي لا قضية بدونها. وإنّ نظامنا هو الطريق الوحيدة لتحقيق قضيتنا. وجميع الأفراد الذين سقطوا من صفوفنا، لم يقدروا، مع كل غرورهم وإدعائهم، أن يكونوا شيئاً. ونحن نثق أنّ جميع الـمترددين والـمنحازين عنا سوف يكونون معنا والذين ضلوا سيعودون إلينا، لأن قضيتنا هي قضية أمة واحدة. هي قضية الـجميع، والـجميع سيدركون شيئاً فشيئاً أنهم يجب أن يكونوا للقضية إذا كانوا يريدون أن تكون القضية لهم (هتاف وتصفيق شديد).
«إنّ سروري اليوم أعظم كثيراً منه في بدء نشوء حركتنا في توكومان. وهو ينسيني الآلام التي كنت أشعر بها في زياراتي السابقة. كنت أتألم، حتى في إبّان النشاط الـماضي، لأن الـحركة كانت مقتصرة على جانب واحد من الـمواطنين. كان الـمنضمون من العناصر الـمسيحية فقط، وأظهرهم أبناء مدينة أو منطقة معينة. وكان يبدو لي أحياناً أنّ معرفتهم الشخصية وصداقاتهم الـخصوصية كانت تـجمعهم أكثر مـما كانت تـجمعهم العقيدة والقضية والنظام. وكان ألـمي يشتد كلما نظرت وفكرت، لعلمي أنه إذا لم تكن عقيدتنا أقوى رابطة لنا فلا قيام لنهضتنا. وقد حاولت أن تسيطر على نهج الـحركة في توكومان نظرة ضيقة أهملت الدوائر الشعبية الواسعة. فكان هناك تردد كبير في قبول من يبيع البقول والأثمار في السوق الكبيرة ومن يدور يبيعها في الشوارع، وكل من لم يكن معروفاً في دائرة أصحاب الوجاهة من الـجانب الذي انضم إلى الـحركة أولاً. أخيراً أصاب الـحركة الفشل وأحاقت تلك النظرة الضيقة بأهلها. وإذا لم يكن بد من سقوط ذاك الكيان لقيام هذا الكيان الـجديد الشامل جميع العناصر التي يتألف منها شعبنا فبوركت ساعة تفككت فيها صفوف حزبنا في توكومان.
«بوركت ساعة تكسرت فيها تلك الدوائر الـمغلقة. وبوركت ساعة انفسح فيها الـمجال ليصير فرع الـحزب السوري القومي الاجتماعي حركة شعبية عامة، كما هي غايته الأولية وكما أنتم الآن (هتاف وتصفيق).
«يزداد سروري بكم، يا رفقاء توكومان، لأنكم حققتم بسرعة مشروع فرع الـجمعية السورية الثقافية للاهتمام بالأمور الثقافية التي يحتاج إليها مجموعنا. وإنّ نـجاحكم ليجلب إليكم وإلى حركتكم أكبر الفخر، خصوصاً بسبب ما لاقيتم من استهزاء الفئات التي عميت بصائرها عن الـحق وفتك فيها مرض الكبرياء ومن تصعيبها الـمسائل لكم. إنهم قد أساؤوا فهمكم وغلطوا في تقديركم وعموا عن غايتكم النبيلة.
«إنهـم، لـجهلـهم، يظنـون الـجمعيـات الثقافيـة للعلماء والـمخرّجين من الـجامعـات الكبرى ويستكبرون عليكم أن تؤلفوا جمعية ثقافية. ولكنكم ثبتم في هداكم وحققتم مشروعكم.
«إنّ الذيـن يؤلفـون الـجمعيـة السوريـة الثقافيـة في توكومان لا يدّعون أنهم مخرّجون من جامعات سورية وأوروبة، ولا يقولون إنهم يؤلفون هذه الـجمعية ليلقوا هم أنفسهم الـمحاضرات في التاريخ والـجغرافية والأدب وبقية العلوم والفنون. وهم لم ينشئوا هذه الـجمعية للاهتمام بالـمعلومات الكمالية، بل أنشأوها لتثقيف أنفسهم في الوعي القومي والـمبادىء القومية الاجتماعية التي هي أساس كل ثقافة. وبعد فماذا يفيد إلقاء الـمحاضرات في هذه الـحقبة أو تلك من التاريخ العام، أو في الفلك أو الأدب أو الفنون، إذا لم يكن هنالك اتـجاه قومي اجتماعي تتعلق به تلك الـمحاضرات وتخدمه؟ إنّ الذين يستهزئون بالذين أنشأوا هذه الـجمعية يجدر بهم أن يتعلموا منهم ويقتدوا بهم، لكي يـمكن أن تصير للسوريين عامة ثقافة واحدة تفيدهم وتفيد أمتهم وجنسهم.
«إنّ تأليف القلوب وجمع فئات الأمة في مطلب واحد وعقيدة واحدة ونظام واحد وإرادة واحدة وقيادة واحدة، هو أول ثقافة يجب أن تُعنى بها الأمة السورية التي أخرجتها الفتوحات البربرية عن محور حياتها، وأفقدتها مُثلها العليا وخطط نفسيتها. كل ثقافة أخرى، قبل تـمكين هذه الثقافة، تكون عملاً باطلاً، نحن بحاجة إلى تثقيف نفوسنا بالتعاليم القومية الاجتماعية التي تصيّرنا أمة واحدة حية قبل حاجتنا إلى محاضرات طائشة، مبعثرة في التاريخ والأدب والفلك والهلك والفنون الـجميلة. لا فائدة لنا من جميع العلوم والفنون، إذا لم يكن لنا غرض موحّد في الـحياة. الثقافة القومية الاجتماعية هي أساس كل ثقافة. هذا ما أدركتموه بفطرتكم السليمة وهذا ما عجز عن إدراكه أصحاب ثقافة الوسكي وخوان البوكر بسفسطة عقولهم.
«إنّ أسمى ثقافة لهؤلاء الذين أفسدت العادات السيئة مواهبهم الفطرية هي أن يتقن الـمرء مزج الكأس وتبريدها ورفعها إلى شفتيه بهدوء وتأن، وأن يتعود الواحد منهم خسارة الألف والألفين والعشرة آلاف فاس دون أن يحمرّ له وجه أو يضطرب له عصب. وأرفع فضيلة لهم أن يخسر الواحد الـخسارة تلو الـخسارة بارتياح نفسي كبير ويتحول بعد ذلك إلى الـمزاح والسخرية والاستهزاء بهذا الأمر أو ذاك، واحتقار الـمطامح النبيلة التي تـحرّك شعباً نحو العلاء. دعوهم في استهزائهم فلن يضرّوكم في شيء ولن يحصدوا غير ما زرعوا!
«إنّ تطور الفرع القومي الاجتماعي في توكومان يـمثّل، نوعاً ما، تطور الـحركة السورية القومية الاجتماعية كلها في صعودها وهبوطها. فقد ارتقى فرع الـحركة هنا، ثم تراخى ثم هبط ثم عاد فصعد هذا الصعود الكبير وبرهن أنّ كل هبوط جزئي، وقتي في سيرنا نحو مطالبنا العليا لا يلبث أن يعقبه ارتقاء، لأن أساس عقيدتنا متين. وإنّ أصحاب النفوس الضعيفة الذليلة، وحدهم، لا ينهضون بعد سقوطهم، أما الـحركة ذات الـمبادىء الصحيحة فسيرها دائماً إلى فوق نحو قمة مطالبها، مهما اعترض سيرها من انحناءات هبوطية. لم يوجد ولا يوجد نهضة أو حركة في العالم، مهما كانت عظيمة وقوية، تـمكنت أو تتمكن من بلوغ أهدافها من غير صعود وهبوط في سيرها. ونحن نعلم أنّ الـمنحـدرات التي تتخلل طريقنـا الصعودية كثيرة، ولكننا نعلم أننا بعد كل انحدار نرتقي إلى قنة أعلى من التي سبقتها. وتاريخ حركتنا، منذ يوم نشوئها حتى اليوم، يقيم البراهين القاطعة على أنّ خط صعودنا لم ينكسر بالانحناءات التي اعترضته، بل ظل يرتفع بعد كل انحناءة إلى أعلى مـما كان (تصفيق شديد وهتاف).
«أيها الرفقاء،
«بعد أحد عشر حولاً كاملاً من الـجهاد نـجد قوة حركتنا القومية الاجتماعية وحيويتها قد زادتا زيادة محسوسة، ونـجد أننا ثابتون ومتقدمون وسط معارك عنيفة وأعلامنا وألويتنا خفاقة في كل جبهة.
«إنّ أشد حروبنا هي الـحرب الداخلية. وهي آلـمها وأمرّها، لأنها بيننا وبين فئات من أمتنا نعمل على رفعها وتعمل على خفضنا، نريد لها العز وتريد لنا الذل، نتوجه إليها بالاحترام وتتوجه إلينا بالاحتقار، نأتيها بالـجد وتأتينا بالاستهزاء! (هتاف شديد وتصفيق متواصل).
«إنها لـحرب مؤلـمة جداً، لأنها بيننا وبين جماعة تريد أن تنتصر علينا وتخذلنا، ونريد أن ننتصر بها ونعززها (هتاف وتصفيق شديد).
«هنالك فئة خاصة من أهل الفساد والنفاق لا تفتأ تطعن فينا عند العامة بالتّهم الزائفة والاختلاقات الـخسيسة، لتعوّض عن عجزها عن أخذ شيء على مبادئنا ونظامنا. هذه الفئات قد تـحولت إلى الـمطاعن الشخصية وجعلت شخص الزعيم هدفاً لنبالها السامة.
«من مطـاعن هذه الفئـة رميهم الـزعيم بالهرب من الوطن إلى أميركة تاركاً الـحزب لـمصيره في معارك عنيفة ناشبة بينه وبين أعدائه. وكثيرون صدّقوا هذه الترهات الغريبة عن الواقع الصادرة عن جهل مطبق وسوء نية فاضح. إني ما برحت الوطن إلا بناءً على خطة سياسية مقررة وما قررت السفر إلا بعد أن انتصرت في أشد الـمعارك السياسية ضدّ قوات الانتداب الفرنسي والـحكومات الـمحلية، وبعد أن أوصلت الـحزب إلى حالة هدنة مكّنته من إعادة تنظيم صفوفه وتعزيز جبهاته، ومن إنشاء جريدة النهضة التي أوصلت صوته إلى أوساط الشعب الـمغلق عليها والـمحاصرة بالإشاعات والإذاعات الـمفسدة. (تصفيق شديد).
«غادرت الوطن بعد أن مرّت السجون الثلاثة وخرجنا منها ظافرين وبعد أن مرّت عواصف الانتخابات في لبنان والشام. وما خرجت من الوطن إلا والـحالة هادئة ولتنفيذ خطة سياسية خطيرة.
«نـما الـحزب السوري القومي الاجتماعي، بين سنة 1935 وسنة 1938، نـمواً كبيراً واتسعت تشكيلاته وصار أعظم قوة سياسية - حربية منظمة في سورية كلها. ولكن هذه القوة العظيمة من الوجهة الداخلية كانت تـحتاج إلى مكملات وإكمال تـجهيز لتتمكن من القبض على مصير الأمة في الساعة الـمناسبة. كنت أرى أنه لا بد من إيصال الـحركة القومية الاجتماعية إلى السوريين الـمغتربين وجمع شملهم تـحت ألويتها الظافرة، وأنه لا بد من درس إمكانيات العلاقات الإنترناسيونية وتعيين أفضلها لسورية. فقررت أن أزور مواطنيّ الـمغتربين لأدعوهم إلى النهضة القومية الاجتماعية وأن أمرّ في مجيئي إليهم ببعض الدول الأوروبية، وأن أمرّ في عودتي إلى الوطن ببعض الدول الأوروبية الأخرى. ولـما حدثت أزمة تشكوسلوفاكية سنة 1938، وكنت حينئذٍ في إيطالية، وكاد يكون من ورائها نشوب الـحرب في تلك السنة لولا مؤتـمر مونيخ، أرسلت كتاباً بالبريد الـجوي إلى الـمنفذ العام للشاطىء الذهبي في أفريقية الغربية الرفيق أسد الأشقر، الذي رافقني فيما بعد إلى هذه البلاد، أقول له فيه إنه إذا نشبت الـحرب فإني أعدل عن متابعة سفري إلى أميركة وأعود إلى الوطن لأكون في الـمركز في هذه الـحالة الـحرجة (هتاف وتصفيق). وأوصيته بالقيام بالسفر إلى أميركة لدعوة الـمغتربين إلى مؤازرة حركة نهضة أمتهم. ثم انقشعت غيوم الـحرب بانعقاد مؤتـمر مونيخ، فعزمت على السير في الـخطة الـمرسومة من الأول. فجئت البرازيل أولاً وبعد أن قضيت فيها، بين مواطنيّ، نحو ستة أشهر، قدمت الأرجنتين. وقد نشبت الـحرب الـحاضرة بعد وصولي إلى هذه البلاد بنحو ثلاثة أشهر ونصف. وكان من وراء نشوب الـحرب أنّ القنصلية الفرنسية في هذه البلاد الكريـمة رفضت تـمديد مدة جواز سفري التي كانت انتهت بُعيْد وصولي. وجرت ملاحقة الـحزب في الوطن من قبل قوات الاحتلال الفرنسي. ورغماً من بسالة رجال الإدارة الـحزبية العليا وحنكتهم، وبسبب خيانة أصول شرف التعامل من قِبَل الفرنسيين، قبض على معظم رجال مجلس العمد وعلى عدد من كبار الـمسؤولين والـموظفين في الـحزب، وحوكمت زعامة الـحزب وإدارته غياباً ووجاهة في مجلس عسكري فرنسي وحكم عليّ غياباً بعشرين سنة سجناً وعشرين أخرى إقصاء، وحكم على معاونيّ أحكاماً قاسية مختلفة بين خمس عشرة سنة سجناً ومثلها إقصاء، وعشر سنوات سجناً ومثلها إقصاء، وما دون ذلك حسب ترتيب الصلاحيات والـمسؤوليات. فاضطررت، على الرغم مني، لأن أكون ضيف هذه البلاد الكريـمة وشعبها الشريف. وهي ضيافة أوجدت في نفسي تقديراً كبيراً للأمة الأرجنتينية النبيلة وتقاليدها الـممتازة. هذا هو سبب خروجي من الوطن وكيفيته، وهذا هو سبب بقائي في هذا القطر الأميركي. إني أعطيكم هذه الـحقائق وأنا أعلم أنّ أهل النفاق والشقاق لا يردعهم شيء عن مآربهم الدنيئة، فهم كلما صعب عليهم تذييع بعض اختلاقاتهم عمدوا إلى اختلاقات أخرى. والأكاذيب لا تنتهي إلا عندما يكون هنالك إخلاص في طلب الـحقيقة. وأهل النفاق يطلبون غاياتهم السافلة، لا الـحقيقة.
«إنّ الثبات والصبر في الـمعارك والشدائد هما من أبرز صفات زعيم الـحزب السوري القومي الاجتماعي. ولكن هل أنا هنا خارج العراك؟ كلا، بل إني وسط معركة عظيمة نشبت يوم وصولي إلى أميركة ولا تزال نارها مستعرة في كل جانب. إنّ تاريخ كل فرع من فروع الـحركة السورية القومية الاجتماعية في الـمغترب يشهد أنّ كل نـمو وكل تقدم لهذه الـحركة العظيمة، في ديار الغربة، لم يحدث إلا بعد معارك شديدة وبعد تغلب على صعوبات كبيرة. وهذه الـمعارك ليست وهمية أو خيالية، بل حقيقية ومليئة بأخطار الدسائس والـمؤامرات (تصفيق).
«أنا هنا محارب لا منزوٍ. أنا هنا، وفي كل مكان، لأعادي من يعادي نهضة أمتي ولأسالم من يسالـمها ولأودّ من يودّها. (هتاف وتصفيق شديد). ومن الـمطاعن التي يرمون الزعيم بها قولهم إني قاس ومتكبر. أما أني قاس فلأني لا أعرف في الـحق لومة لائم. وأما أني متكبر فصحيح بحق. فقد قلت من قبل وأعيد القول الآن: إني متكبر على كل متكبر على القضية والـحركة والنظام. ومن ظن من المتكبرين أنّ رأسه بين النجوم فليعلم أني أرى النجوم مواطىء لقدمي، أما الذي يترك الكبرياء ويحسب نفسه صغيراً بالنسبة إلى القضية الـمقدسة والعمل العظيم الذي وقفنا نفوسنا عليه فهذا أخي وصديقي ورفيقي يسير معي ولا أتخلى عنه (هتاف وتصفيق متواصل).
«يا رفقائي،
«نحـن الآن في الـحـول الثانـي عشر لبدء نهضتنا القومية الاجتماعية وجهادنا لبلوغ غايتها السامية. ومع أننا نأسف لطول مدة الـحرب الداخلية، التي امتد وقتها بسبب ما تقيمه فئات الرجعة والنفاق من العراقيل في طريق توحيد الأمة في مطلب واحد وحركة واحدة وقيادة واحدة، فلا تردد عندنا في وجوب متابعة هذه الـحرب إلى آخرها، لأنه على نتيجة هذه الـحرب يتوقف نهوض سورية أو سقوطها النهائي وتلاشيها. وإنكم تلاحظون من تفضيل جريدة الزوبعة العناية بحوادث معاركنا الداخلية على الاهتمام بشؤون الـحرب العالـمية الـحاضرة، إننا نولي شؤوننا أكثر اهتمامنا. وإذا كانت معاركنا أصغر نطاقاً من معارك الـحرب الكبرى الدائرة رحاها فهي لنا أعظم شأناً من هذه. إنّ ما هو من شؤوننا يجب أن يهمنا أكثر كثيراً مـما هو من شؤون الغير. قبل أن نهتم بـما تدبّره ألـمانية لروسية، وما تدبّره بريطانية لألـمانية، وما تعدّه أميركانية لليابان، يجب أن نهتم بسير عقيدتنا وبقضايانا الداخلية التي يجب حلها من أجل توحيد أمتنا وتهيئتها للوقوف موقفاً واحداً في ميدان تنازع البقاء والتفوق (تصفيق).
«وربّ أمر صغير يجري في وسطنا يعدّه الـخالون من الثقافة القومية شيئاً تافهاً، بالنسبة إلى الأمور الكبيرة التي تـجري في الدول الكبرى، هو أجدر باهتمامنا وتفكيرنا من جميع هذه الأمور الـمتعلقة بغايات بعيدة عن غايتنا...
«بـمناسبة ذكر جريدة الزوبعة أرى أن أوضح لكم حقيقةً يحاول أصحاب الأغراض الرجعية والنفعية تشويهها لينسبوا إلى زعامة الـحركة القومية الاجتماعية ما لا يصح نسبته إليها. فكل مقال، مثلاً، يكتبه أحد القوميين ليردّ به على مطاعن دجالي الأدب والصحافة وليعيد إليه الصاع صاعين، وتنشره الزوبعة، يصير سبباً لتآويل كثيرة عند أصحاب النيات السيئة فيهبّون قائلين: لـماذا تتعرض الزوبعة لهذا الصحافي أو ذاك، أو لذلك الرجل وتلك الـمسألة ويلقون اللوم، طبعاً، على الزعيم. ومع أنّ لا شيء مـما ينشر في الزوبعة يخرج عن تناول حالة أوساطنا وحركة من حركاتها، فإن الـحملة على الزوبعة بهذه الـحجج الواهية صارت موضوعاً هاماً للتغرير بالذين يـميلون إلى غمض العيون على القذى وترك الأمور تـجري في أعنّتها. فليعلم الـجميع أنّ جريدة الزوبعة هي جريدة قومية إجتماعية عمومية، أي أنها ليست الـجريدة الرسمية لـمكتب الزعيم أو لإدارة الـحزب. فهي مفتوحة لأقلام جميع القوميين لتظهر فيها جميع نواحي العراك العقائدي والصراع النفسي. وهي تتناول الـمواضيع الشعبية كما تتناول الأبحاث العليـا. وقـد قضت الضـرورة أنه لا يـمكن الفصل بين الـمواضيع والـمعارك الشعبية من جهة والـمواضيع الأساسية والصدام السياسي من جهة أخرى، وإيجاد صحيفة خاصة لكل قسم من هذين القسمين. فلم يكن بد من فسح الـمجال في الزوبعة لـجميع هذه الـحاجات.
«لا يعني ذلك أنّ الزوبعة جريدة منفلتة. كلا، فهي جريدة قومية إجتماعية عامة وموجهة في الـمسائل السياسية. فما نشرته الزوبعة في هذه الـمسائل يحمل طابع النهضة القومية الاجتماعية وينطبق على خططها. ولا يعني ما قلته في صدد عنايتنا بـمسائلنا الداخلية أولاً، أننا نهمل تتبُّع ما يجري في العالم. فالـحقيقة أننا نتتبع كل أمر يحتمل أن يوجد حالة جديدة أو تأثير في مجرى شؤون العالم. وقد جرت مؤخراً أمور كنا نتوقع حدوثها من زمان.
«كنت أتوقع نشوب الـحرب الـحاضرة، وكنت أرى أسباب التزاحم الإنترناسيوني الباعثة عليها. وبعد وصولي إلى الأرجنتين بأيام غير كثيرة وقبل ابتداء الـحرب بثلاثة أشهر وجّهت إلى القوميين الاجتماعيين والشعب السوري، كافة، نداء صوّرتُ فيه الـحالة الـمقبلة ودعوتهم إلى اتخاذ الـموقف الذي يكون فيه إنقاذ مصالح أمتنا. ثم عدت فوجهت نداء آخر في سنة 1940. ومن يراجع هذين النداءين والتصريحات السابقة التي أدليت بها في مواقف متعددة يجد أنه ليس في كل ما يحدث اليوم ما يـمكن أن يسمّى مفاجأة لنا.
«منذ أسابيع معدودة جرى في موسكو مؤتـمر عقده وزراء خارجية روسية وبريطانية وأميركانية لإيجاد تفاهم بين هذه الدول على سياسة الـحرب، وعلى الشؤون التي يـمكن أن تتضارب فيها مصالـحها ومراميها بعد الـحرب. لم ينشر شيء يدل على الـمواضيع الـمعينة التي بحثت وما تقرر في صددها. ومن البلاغات الرسمية يستنتج أنه بقي مجال واسع لـحرية التزاحم على النفوذ السياسي في مناطق كثيرة. ولكن يحتمل أن تكون قد تقررت أمور ذات بال. والـمؤسف جداً أن لا نكون الآن في موقف نقدر فيه على طلب إيضاح في ما يخص مستقبل أمتنا ووطننا. فالإرادات الأجنبية العارفة بانشقاق السوريين وتخاذلهم لا تشعر أنها تـحتاج إلى مراعاة حقوق سورية ومطامحها في ما تقرره، خصوصاً في أمر وطننا والشرق الأدنى والبحر الـمتوسط. هذه القضايا الـخطرة لا تبقي مجالاً للشك في أنّ الوحدة السورية القومية التي تقررها مبادئنا ويحققها نظامنا هي طريق الإنقاذ الوحيدة لسورية وحقوقها ومصالـحها.
«حدثت مؤخراً في الوطن حوادث سياسية ذات أهمية لنا. وهي غريبة جداً ومستغربـة إلا في دوائـر الـحركة السورية القومية الاجتماعية العليا. فإن رئاسة الـجمهورية اللبنانية وحكومتها ومجلسها أجمعت على إدخال تعديلات على الدستور اللبناني معناها التحرر من السيادة الفرنسية على لبنان. وقد ظن الناس أنّ هذه الـحركة قائمة على نزعة تـحريرية في نفوس القائمين بها. والـحقيقة أنّ أسباب هذه الـحركة موجودة في تنازع النفوذ بين بريطانية وفرنسة على شمال سورية. وهو تنازع قديـم إشتهر أمره عقب الـحرب الـماضية. إنّ أكثرية أعضاء الـمجلس النيابي في لبنان هم من النواب السابقين ومن الذين اشتهرت الـمواقف التي أظهروا فيها «تعلقهم» بالدولة الفرنسية «الكريـمة» و«باستقلال لبنان الـممنوح من فرنسة» ومن الأمور التي يهمنا ملاحظتها أنّ البطريرك الـماروني، الذي كان لعهد قريب يشرب نخب فرنسة مع الـمندوب الديغولي ويشيد «بالصداقة التاريخية» بين لبنان وفرنسة وباعتماد اللبنانيين عليها، هو في عداد الذين يطالبون اليوم بالاستقلال ورفع يد الفرنسيين عن لبنان!
«إنّ حركة هؤلاء الأشخاص والشخصيات لا تتفق مع مواقفهم الـماضية. فحين كان الـحزب السوري القومي ينكر أنّ لبنان دولة مستقلة، كانت الفئات الـحاكمة والـمستندة إلى القوة الفرنسية تنعته بالكفر. وجميع الصحافة الانفصالية في لبنان والـمغترب كانت تعدّ لبنان مستقلاً وتُعيّدُ لاستقلاله في أول سبتمبر/أيلول. والبطريرك الـماروني كان يؤكد أنّ لبنان مستقل. ففي خطابه السياسي سنة 1937، الذي أوجب ردّي عليه وتصحيحي أغلاطه، قال: «أما لبنان، الذي كان له شبه استقلال، (يعني في العهد التركي) فقد منح الاستقلال التام بعناية جامعة الأمـم وفضل الدولة الكريـمة فرنسة الـمحبوبة.» فإذا كان لبنان مستقلاً منذ أعلن استقلاله الـجنرال الفرنسي غورو فلماذا يجحد الآن البطريرك والنواب الذين «رتعوا» في بحبوحة «الاستقلال اللبناني» نعمة فرنسة وفضلها على لبنان؟!
«ليست الغاية الاستقلالية هي التي حفزت جمهور الـحكومة اللبنانية إلى طلب رفع الانتداب الفرنسي، بل ضعف السلاح الفرنسي وسقوط فرنسة ووجود قوة أخرى مسلحة في البلاد لها مصلحة في زوال السيادة الفرنسية، هي الدوافع الـحقيقية لهذه الـحركة الـمنعوتة بالاستقلالية. ومن الأدلة الناصعة على ذلك طلب البطريرك الـماروني حمايـة الـجيش الإنكلـيزي للبنـانيين من «صداقة فرنسة التاريخية» وطلب الـحماية الأجنبية ليس حركة استقلالية.
«كاد يبح صوتنا ونحن ننادي اللبنانيين إلى طريق الاستقلال الصحيح. فكان الـمتعلقون بفرنسة والـمنافع الفرنسية، ومنهم أكثر طلاب الانفصال عن فرنسة اليوم، يتهموننا بالكفر وجحد نعمة الاستقلال اللبناني الذي أعلنه القائد غورو. وعبثاً كنا نقول لهم إنّ الاستقلال الصحيح هو الذي تعلنه الأمة لا الذي يعلنه قائد جيش أجنبي محتل البلاد وإنّ الاستقلال الذي يعلنه ذو سلطة أجنبية يعلن أنّ الـحق فيه هو لتلك السلطة لا للشعب الـمعلن له. لقد أبوا إلا أن يتابعوا تلك الـمهزلة فكان لهم استقلال واحد معلن من قِبَل الـجنرال غورو، ثم جاء كاترو ومنحهم استقلالاً ثانياً فصار لهم استقلالان (ضحك من الـجمهور). وفجأة يقف الآن أصحاب «الصداقة التاريخية» مع فرنسة ليطلبوا الاستقلال عن فرنسة وحماية الـجيش البريطاني!
«قلنا من قبل ونعيد القول اليوم إنّ الذين قبلوا السيادة الفرنسية في البلاد باسم الـحرية والاستقلال والديـموقراطية هم الذين يقبلون بكل سيادة غيرها عندما تسقط فرنسة. والذين اتهموا الـحزب السوري القومي الاجتماعي بالعمل لـمصلحة ألـمانية أو إيطالية، لأنه رفض ذلك الاستقلال السخري وعمل للوحدة القومية والاستقلال الصحيح، هم الذين يكونون في مقدمة طالبي الـحماية الألـمانية أو الإيطالية إذا قُدّر لألـمانية أو إيطالية الانتصار واحتلال البلاد. وها هم قد أعلنوا أنفسهم. فبين ليلة وضحاها انتقلوا من حالة التغني «بفضل» فرنسة إلى حالة جحد نعمتها وهي ساقطة. ولو كانت فرنسة واقفة على قدميها كالأول لكان تغنّيهم بفضلها وصداقتها عديـم النهاية.
«مهما يكن من أمر هذه الـحركة الـجديدة في لبنان فهي مفيدة من وجهة نظرنا. وأهم فائدة هي تنبيه الشعب إلى الـخداع الـماضي وعدم إمكان خدع عامة الـموارنة في الـمستقبل بالأصل الفرنسي والصداقة الفرنسية. أما الاستقلال الصحيح فليس موجوداً في مطاليب الـحكومة اللبنانية.
«ليس للبنان أساس اجتماعي - اقتصادي للاستقلال. فمن الوجهة الاجتماعية لا تكوّن هذه الـجمهورية اللبنانية مجموعة دينية واحدة، كما قصدوا أن تكون. ولم تبقَ اليوم للبنان أكثرية مسيحية. والـمسألة الدينية هي أساس كيان لبنان، وما دام كيان لبنان لم يحل هذه الـمسألة فمن العبث التشبث بفكرة هي ضد مصالح الشعب السوري في لبنان وجميع الـمناطق السورية. وقد وُجد من ادّعى، تضليلاً للناس، أنّ الـمسألة اللبنانية ليست مسألة دينية، بل سلالية - اجتماعية - تاريخية محتجاً بانتساب اللبنانيين إلى الفينيقيين، تـمييزاً لهم عن باقي السوريين، وبأن لبنان كان دائماً دولة مستقلة، وغير ذلك من الـحجج الفاسدة. إنّ انتساب سكان جبال لبنان إلى الفينيقيين باطل وقد أثبتت بطلانه التحقيقات العلمية الأنتربولوجية والدموية. فسكّان لبنان هم، في الغالب، من السلالة الـمفلطحة الرؤوس، في حين أنّ الفينيقيين هم سلالة مستطيلة الرؤوس. وشكل الرأس اللبناني هو وريث الشكل الـحثي لا الفينيقي. ولم تكن فينيقية تنتسب إلى لبنان، بل إلى سورية. وإذا رجع الـمسيحيون إلى كتابهم، الإنـجيل، وجدوا أنّ فينيقية معرفة فيه بفينيقية سورية، لا بفينيقية لبنان. أما ما نشأ في لبنان من إمارات فلا يبرر القول إنّ لبنان كان دولة قومية مستقلة. فالإمارات هي من صفات العهد الإقطاعي، لا العهد القومي. وفي فرنسة كانت عشرات الإمارات الكبيرة، فضلاً عن الصغيرة، وكذلك في إيطالية وألـمانية وإسبانية وفي كل بلاد مرّت في طور الإقطاع. فإمارة فخر الدين الـمعني في لبنان، مثلاً، كانت إقطاعة كبّرها السلطان سليم التركي. وتاريخ فخرالدين الـمعني يدل على أنه رجل سياسي كبير عرف بثاقب رأيه أنّ لبنان وحده لا يكفي لتكوين دولة مستقلة فحاول إيصال حدود دولته إلى أبعد حدود سورية. ومن الوجهة الاقتصادية لا يشكل لبنان سوقاً منفصلة عن الشام وفلسطين، والـموارد الطبيعية تكمل بعضها بعضاً في هذه الأجزاء الثلاثة الرئيسية، بحيث لا تكون هنالك وحدة اقتصادية إلا بها جميعها.
«ليست مطاليب الـحكومة اللبنانية استقلالية بالـمعنى الصحيح، لأنها خالية من شروط الاستقلال، ولكنها خطوة موافقة. أما الاستقلال الصحيح فهو الذي يقوم على الوحدة القومية الاجتماعية لـجميع السوريين، التي تعلنها وتـجاهد لتحقيقها حركتنا القومية الاجتماعية.
«كما أنه لا أساس اجتماعي - اقتصادي لإنشاء دولة في لبنان، كذلك لا أساس اجتماعي - اقتصادي لإنشاء أمة واحدة ودولة واحدة من أقطار العالم العربي الـمنتشرة في قارتين، والـمتباعدة فيما بينها بـما يتخللها من صحارى وبحور، والـمتباينة شعوبها بالأمزجة والنفسيات والثقافة والـمصالح. إنّ فكرة الوحدة العربية هي هوس ديني أكثر منها حقيقة.
«قـام كثيـر من الـمنافقين والرجعيين يحاربون الـحزب السوري القومي الاجتماعي ويتهمونه بالعداء للعرب لأنه لم يجعل غايته الوحدة العربية، ولم يقل بقومية عربية واحدة غير موجودة إلا في مخيلة الواهمين وأهل الأحلام. ولكن مبادئنا التي يحاربها أولئك الـجهال هي التي تفعل اليوم في العالم العربي كله.
عند هذا الـحد تناول الزعيم كرّاس مبادىء الـحزب وغايته وقرأ آخر فقرة من الشرح وهي:
«ومن ناحية العالم العربي يرى الـحزب سلك طريق الـمؤتـمرات والـمحالفات التي هي الطريق العملية الوحيدة لـحصول تعاون الأمـم العربية وإنشاء جبهة عربية لها وزنها في السياسة الإنترناسيونية.»
(وتابع الزعيم قائلاً):
«أليست هذه الـخطة التي قررها الـحزب السوري القومي الاجتماعي هي ما تـحاول الأقطار العربية اليوم السير عليها؟ أليس هذا ما دعا إليه رئيس الوزارة الـمصرية طالباً إلى رئيس وزارة العراق وإلى حكومة العربية السعودية وغيرها عقد مؤتـمر يقرر فيه التعاون بين هذه الأمـم؟ أليس هذا تنفيذاً للخطة التي أعلنها زعيم الـحزب السوري القومي قبل حكومة مصر أو غيرها من الـحكومات؟ بلى، هذه هي الـحقيقة الصريحة.
«وقد رأينا سنة 1936 كيف أنّ مبادىء الـحزب السوري القومي الاجتماعي ونظامه أصبحت الأساس لقيام الـحزب القومي العراقي في العراق ولإيجاد منظمة «شباب الوفد» في مصر، كما كانت القدوة «للقمصان الـحديدية» التي أنشأتها «الكتلة الوطنية» في الشام إغراءً للشباب. وها نحن نرى اليوم مؤتـمر حزب الوفد الذي عقد في أواسط هذا الشهر يقرر تطبيق منهاج الـحزب السوري القومي الاجتماعي. ففي مقررات هذا الـمؤتـمر التي وردت بها برقية في الثامن عشر من هـذا الشهـر هـذه البنـود: «1 - إستقـلال مصـر وحريتهـا، 2 - إنشـاء جيش قومـي، 4 - الـحيـاد فـي الـحـرب، 6 - تنشيط التفاهم الـمتبادل مع الشعوب العربية.» هذه أهم النقاط التي قررها مؤتـمر حزب الوفد الـمصري. ومشابهتها لبعض مبادىء الـحزب السوري القومي الاجتماعي ونقاط منهاجه البارزة واضحة. فعدا عن فكرة الاستقلال الذي هو أمنية كل شعب حي نـجد البند الثاني القائل بإنشاء جيش مصري قوي منطبقاً على نص الـمبدأ الإصلاحي الـخامس من مبادىء حركتنا وهو «إعداد جيش قوي يكون ذا قيمة فعلية في تقرير مصير الأمة والوطن.» وكذلك الـحياد في هذه الـحرب هو ما قررته لسياسة الـحزب القومي الاجتماعي. ومن أبرز مظاهر تأثير خططنا في تفكير مصر السياسي البند السادس من مقررات مؤتـمر الوفد القائل بتنشيط التفاهم الـمتبادل مع الأقطار العربية، فهو ينطبق كل الانطباق على قواعد نهجنا السياسي وعلى الفقرة من شرح هذا النهج الـمتعلقة بـموقفنا من العالم العربي التي قرأتها لكم منذ هنيهة.
«يذيع مؤتـمر حزب الوفد الـمصري هذه الـمقررات ولا يجد مقاومة من أوساطنا الرجعية والنفعية، لأن هذه الـمقررات الـمصرية لا تهدد منافع هذه الأوساط مباشرة، ولأن تنفيذها يجري في مصر، ولأن الذين ينظرون إلى الأمور بنظّارات الـحزبية الدينية لا يجدون اعتراضاً على ما يقرره حزب هو كله، تقريباً، محمدي أو سنّي خاصة، وزعامته من أبناء الـملة الـمحمدية. كذلك الـمسيحيون أو الـموارنة خاصة في لبنان قبلوا رفض البطريرك الـماروني وشخصيات مارونية أخرى استقلال غورو وكاترو ولم يقبلوه من زعامة الـحزب السوري القومي الاجتماعي، لأن الزعيم ليس من أبناء الطائفة الـمارونية، ولأنه لم يبنِ الـحزب على نزعة أو حزبية مسيحية. فالـحقيقة عند الـمصابين بعمى الـحزبية الدينية لا تكون حقيقة إلا إذا جاءت من الـجانب الديني الـمرغوب فيه ووفاقاً لـخطط الـحزبية الدينية.
«مهما يكن من مكابرة الرجعيين ومقاومة الـمنافقين والنفعيين، فلم يعد في الإمكـان سـتر انتصار مبادئنـا وخططـنا وسيطرتها على أساليب التفكير والعمل السياسيين، ليس فقط في وطننا، بل في جميع الأقطار العربية الناهضة (هتاف وتصفيق شديد). ونحن يهمنا حصول الـحقيقة ولا يهمنا إعترف بها الـمكابرون في الـحق أم لم يعترفوا (تصفيق).
«أيها الرفقاء القوميون الاجتماعيون،
«إنّ أحد عشر حولاً مرّت، في جهاد متواصل ومعارك شديدة مع قوات داخلية وخارجية كبيرة، قد برهنت على أنّ عقيدتنا ونظامنا هما الأساس الذي لا أساس غيره لإصلاح شؤوننا وتوحيد أمتنا. وكثير من الذين أنكروا هذه الـحقيقة الكبرى يضطرهم الواقع للعمل بها طوعاً أو كرهاً. ومهما ظهرت لكم من بروق فثقوا أن لا شيء يُغني عن تـحقيق مبادئنا بكاملها، واعلموا أنّ الساعة التي تقوم بها حركتنا قومتها الكبرى لتسترجع لسورية حقوقها الـمهضومة، وتوجد لها مكانها الـممتاز تـحت الشمس تقترب بسرعة. فليكن إيـمانكم قوياً وثابروا، فإنكم تعتنقون قضية كُتِبَ لها النصر!» (هتاف شديد وتصفيق).
(تكلـم الزعيـم نحو ساعتين وختم خطابه بالهتاف بحياة سورية فردد الرفقاء هتافه ترديداً دوّى في الـجو. وقد فاتنا تسجيل بعض عبارات خطابه ولكننا نعتقد أننا لم نترك إلا القليل.
وقد نزل الزعيم من الـمنصة وسط عاصفة من التصفيق وانتقل إلى غرفته الـخاصة ليغيّر ثيابه التي ترطبت من العرق. وبعد نصف ساعة خرج لنزهة قصيرة فأُعدّت عجلة ركبها ورافقه اثنان من القوميين الاجتماعيين، فجالت العجلة بـمعاليه نحو نصف ساعة ووقفت أمام الـمطعم الذي أعدّ فيه العشاء الرسمي. فتقدم الزعيم وأخذ مركزه في وسط الـمائدة الرئيسية وقد حياه الرفقاء حين دخوله.
كانت حفلة العشاء رائقة شائقة وانتهت بالأناشيد والأهازيج القومية اشترك فيها جميع الرفقاء فكانت من أجمل دلائل الـحياة ويقظة الشعور.)